الأحد، 11 فبراير 2018

قصة قصيرة - لِمَ





إنها الثالثة فجرًا، شتاء يوم الثلاثاء، تتخبط الشبابيك من شدة الرياح، والأغطية التي يتلفح بها الصغار للتدفئة، تكاد تشبه الجليد..
صوت صراخ، ومشادات تسمعه نور.. الابنة الكبرى البالغة من عمرها تسع سنوات، تفتح عينيها، فتقوم لتغلق الشبابيك.. وتذهب لتعيد الغطاء على جسد أخيها عمر الذي دائمًا ما يزيحه من عليه أثناء تقلبه في النوم، تفتح باب الغرفة وتمشي في طرقة منزلهم البالي بخطوات أشبه بالهمس، فتجد مشهدًا يجبرها على التسمر..
تُصفع أمها على خديها فتسيل الدماء منه، فتنزل دموعها وتصرخ داخلها بلا صوت..
ومضت ذات التسع سنوات، تجاه والدها تحاول أن توقفه.. لكنه وبلا رحمة ألقاها أرضًا.. وبعدما كان ممثل الأبوة هذا يمسك والدتها بإحكام شديد، فجأة ضعفت أعصابه وتركها من يديه، ضمت الأم صغيرتها، وخرج الأب من المنزل تتبعه نظرات ابنته التي داخلها كل الأسى والملامة..
تسع سنين وتعرف كل شيء.. نعم العمر ماهو إلا كذبة.. الطفل الرضيع يضحك لك إن رآك مبتسمًا تداعبه، ويبكي إن بدلت ملامحك بالغضب..

كانت نور تعرف أن والدها قاسٍ، كانت تحبه جدًا رغم ذلك فهو أبوها، كل ما ودت أن تعرفه هو لِمَ يفعل كل ذلك؟!
لِمَ يهين أمي لهذه الدرجة؟! لِمَ يسلبها قهرًا حقها في أن تكون سعيدة؟!

لم تعرف نور جوابًا لأسئلتها.. ومضت السنون.. كبر فيها الصغار والأهل وتغير كل شيء، إلا إهانة والدها..
الأم دومًا مصدر الرحمة والنور، هي السعادة التي لا تُشترى..والمسمى الذي بناءًا عليه تطلق كل تعاريف الحنان والمحبة..
كانت تحتمل وجع الأيام وذلها فقط لأجل هذين الصغيرين.. وليس لها دون بيت زوجها مكان،  زُوجت وهي ابنة  اثنين وعشرين عامًا لم تحظ بفرصة لإكمال دراستها، ليس لديها أي حرفة يمكن بها أن تأتي بدخل يُسهل حياتها.. أهلها جميعهم ليسوا هنا.. تركوها وكأنها سلعة رخيصة تم بيعها..
 ومن الجلي أن والد نور يستغل لصفه كل ذلك، فيتمادى في جرح والدتها..

أصبحت نور شابة جميلة ،شعر غجري أسود، عيناها بنيتان، وبشرتها سمراء ساحرة.. في يومها الأول في الجامعة، هي تدرس الإعلام.. تود لو تستطيع أن تكون لسان كل امرأة مغتصبة حريتها.. همها الأول والأخير الدفاع عن حقوق المرأة..
ولكن كانت دومًا في حالة من الحيرة، لِمَ أمي صامتة على إهانة أبي كل تلك السنين؟! ماذا فعلت لتُهان بهذا الشكل المقرف؟!
رأفتها بوالدتها منعتها من السؤال، خوفها من أبيها أجبرها على الصمت..
هل ياتري مجتمعنا العربي يسمح للرجل بإهانة المرأة فقط لكونه يملك المال والسكن "والسترة"؟
كانت تلك الشابة الطموحة المليئة بالحماس، تود لو أن تعرف كل أجوبة تلك الأسئلة.. كلما كانت ترى والدتها تبكي، تضمها لصدرها بحنان ثم تخبرها
"متزعليش يا امي،كلنا في مركب واحدة "..
 لتجيبها بصوت يرتعش"بس اللي بيقدف في المركب، غير اللي قاعد فيها مرتاح.."
لزمت الصغيرة وأمها الاستغفار.. فهو الحل الوحيد لكل تلك الأزمات السخيفة المعقدة

و في يوم مرضت والدتها مرضًا شديدًا يتطلب من نور الجلوس بجوارها، وترك الجامعة لفترة حتى تطمئن على والدتها..
اشتد المرض، كانت الأم تدرك أنها النهاية، ولكن الصغيرة تأبى تصديق ذلك..
طلبت منها أن تحضر لها شيئا من داخل خزانتها..
وجاءت نور بمذكرة، أوراقها بالية والدموع الجافة ظاهرة على الأحرف.. قالت
"عديني ألا يتغير شيئًا.. وألا تقرأي تلك الكلمات إلا بعد رحيلي.."
صمتت نور ووعدت أمها، رغم أنها فتاة مجادلة بطبعها كثيرة الأسئلة، لا تبرح حتى تعرف.. ولذلك هي كتلة من النشاط، الأولى في جامعتها، رئيسة اتحاد الطلاب، تلعب على البيانو أيضا، وفازت بعدة مسابقات دولية..

هل يعرف المرء نهايته؟ هل تُكشف له في الدقائق الأخيرة كل الخفايا؟! هل يُزاح من عليه وشاح الجهل ويرى الحقيقة؟!
نعم، كل ذلك يحدث، عرفت والدة نور نهايتها، أحست بذلك ،رغم ترددها في إعطاء نور المذكرة إلا أنها فعلت في النهاية..
كانت بين خيارين أحلاهما مُر..
رحلت والدة نور، لم يخيم الحزن على البيت، كان هو  الأساس منذ البداية.. لم تستطع نور أن تعبر عن حزنها، تماسكت لأجل أخيها عمر.. ولأول مرة في حياتها ترى دموع والدها.. كأن رحيلها صدمة.. واستهزاء بوالدها لكونه لا يعترف أن لكل شيء طاقة  قد تنفذ، حتى الجماد له أعمار افتراضية.. 

قلبت نور في الوريقات الأولى، لتجد أن والدتها غُصبت على الزواج، ورغم ذلك صارت على نهج التقاليد، غير أن زوجها كان يهينها بشتى الطرق، تزوج عليها.. ولم تستطيع أن تعترض، نور في الحقيقة ليست ابنتها... نور ابنة زوجته الثانية التي ماتت قهرًا أيضا. فوالدها تركته أمه بلا سبب ، لذا قرر أن ينتقم من نساء الدنيا.. حكاية أشبه بالأفلام الهندية ولكنها الحقيقة المرة..

والدها مريض، يأذي روحه قبل الآخرين.. عليها أن تكون بجواره ولا تكرهه، عليها أن تكون ابنة بارة ،تغير مفهومه عن النساء،عليها ان تجعله يؤمن بوجود الأسباب..

إبداع الكاتبة\ ياسمين محمد

هناك تعليق واحد: