الخميس، 10 أغسطس 2017

مقال - هل الحسد يغير الواقع

                                                           


 الدين غاص ومليء بأمور كثيرة، منها ما يصل إلى حد اليقين والعقيدة التي يكفر المسلم بإنكارها، ومنها ما هو عادي، ولدى كل شخص إيمان خاص به عنه واعتقاد، سواء كان هذا الاعتقاد مبني على تجربته الشخصية أم على عاداته وتقاليده، ومن هذه الأمور موضوع الحسد ..
ودائمًا ما ترتبط هذه الكلمة بمشاعر الكره والنفور والخفاء عن الناس، حتى أصبحت العقيدة الراسخة المنتشرة -خصوصًا في المجتمعات التي تقل بها الثقافة العقلية السليمة- :أن صاحب الموهبة وصاحب الفضل في شيء عليه أن يختفي عن أعين الناس، وأن يخافهم حتى لا يقع في دائرة حسدهم؛ فتزول عنه هذه النعمة وهذا الفضل، وكأن الحسد بات يتحكم في مقاليد الأمور، وكأنه يستطيع أن يغير العالم،  وحاش لله من قولنا هذا.

الحسد في أبسط تعاريفه هو تمني زوال النعمة عن الغير، فهو مرض وحقد شديد في قلب الحاسد تجاه المحسود، فهل يستطيع هذا الحاسد أن يدمر المحسود فقط بهذه المشاعر السيئة في القلب؟، وما هي دلالة القرآن عن ذكر الحسد؟!...
في البداية نريد أن نوضح شيئًا مهمًا، وهو أن تحديد السبب والمسبب أمر معقد جدًا، لا نستطيع أن نحدده بسهولة، فلا نستطيع أن نقول أن هذا الإنسان مات بسبب أنه كان مريضًا، فلو كان ذلك صحيحًا، فكم من مريض مرِض بشدة حتى ظننا أنه قد حانت نهايته، ثم قام من على سرير الموت وعاش سنينًا وسنينًا، وكم من صحيح ظننا أنه معمر، ثم مات من غير علة ولا مرض، فالأصح أن الأسباب التي نختلقها حول هذه الأمور ما هي إلا أوهام نوهم بها أنفسنا حتى نعزيها عما فقدناه، ناسين أن هذا المريض قد مات لأن عمره في هذه الحياة قد انتهي، وإن السبب الحقيقي لموته ليس المرض، وإنما هو قضاء الله بانتهاء أجله، فالحقيقة أن هذا المريض لم يمت لأن قلبه توقف عن النبض، بل إن قلبه توقف عن النبض بسبب أنه مات ...

ومن هذه النقطة ننطلق إلي الحسد، فهل يٌعقل أن الحسد يستطيع أن يغير من مجريات الأمور حقًا، وهل منحنا الله الفضائل والنعم والمواهب حتى نخفيها عن الناس خوفًا من الحسد، وكيف نفسر آيات القرآن التي تتحدث عن الحسد .
يجب أن نكون متفقين على أن الإيمان درجات، فهناك شخص قوي الإيمان، راسخ في التوكل على الله، وهناك شخص ضعيف الإيمان، ما زال يتشبث بأوهام الأسباب، والله سبحانه وتعالى يعلم ذلك جيدًا، ويخاطب كلتا الفئتين بما يتناسب مع إدراكهما .
قال الله تعالى في سورة البقرة "وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم" فهل استطاع أهل الكتاب أن يردوا المسلمين عن دينهم بهذا الحسد!!
وقال تعالى في سورة النساء " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا" فهل استطاع هؤلاء رغم حسدهم أن يزيلوا النعمة التي أعطاها الله لإبراهيم

نأتي إلى الآيات المشهورة والتي تسبب مشكلة عند الناس، وهي آيات سورتي المعوذتين التي تبرهن على شر الحاسد، وأنهما منجيتان من هذا الشر، فكيف نتعامل معهما بصورة عقلية دينية مثقفة وهذه الصورة حقيقةَ شخصية حول تفسير الحسد، صواب بالنسبة لي، ولكنها ليست بالضرورة صوابًا بالنسبة للقارئ، ولكن علينا أن نفتح عقولنا لنكتشف الحقائق سويًا حتى لا يقال أن ديننا يدعو إلى الخرافات..
أولًا: الحسد هو مرض قلبي في نفس الحاسد، يدعوه إلى الكره والحقد، وعندما يعلم المحسود أن هذا الشخص يحسده سيكرهه بالطبيعة، وستتقطع بينهما العلاقات الأخوية، والعلاقة بين المسلمين قائمة على الأخوة والحب، ولذلك حذرنا الله وحذرنا رسوله من الحسد، لا لأن الحسد يغير شيئًا، ولكن لأن الحسد يقطع العلاقات بين الأخوة.
ثانيًا: أن الله تعالى يخاطب كما قلنا جميع المستويات من الإيمان، فخاطب صاحب الإيمان الكبير في سورة الحديد قائلًا: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" وذكر في الآية التي تليها مباشره سبب ذلك "لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" فكل شيء مقدر عنده تعالى، وما يحدث من مصائب تصادف حسد حاسد فما هي إلا مصادفات يرتبها ويغذيها في عقولنا الشيطان، حتى ننسى أن المسبب هو الله، ونعتقد أن المسبب هو الحسد..
هذا الخطاب هنا حينما يسمعه الشخص ذو الإيمان الكبير والهمة العالية، سيسير في الأرض ضاربًا بحسد الحاسدين عرض الحائط، لأنه مطمئن أن كل شيء من الله، ولكن هناك فئة ضعيفة الإيمان قليلًا، ستقول نعم لقد طمئننا الله بأن الحسد لا يغير شيئًا، ولكننا ما زلنا متشككين، لأنهم محكمون بتقاليدهم وأعرافهم، والحسد معروف وموجود قبل أن يأتي الإسلام، وهنا أراد الله أن يطمئن هؤلاء أيضًا، وكأنه يقول لهم إذا كنتم تعتقدون بأن الحسد يغير شيئًا من قضائي وتخافون من الحسد،  فاقرأوا المعوذتين وحينها لن يصيبكم الحسد ...فالموضوع هنا للطمأنينة النفسية فقط، وليس لأن الحسد يغير الواقع،  وهذا شيء مثبت حتى عند علماء التنمية البشرية، بأن الشخص إذا كان يفكر في الأمر الإيجابي ويوهم نفسه بالإيجابية، سيجد الأمور إيجابية، وإذا فكر بسلبية سيجد الأمور سلبية، إلا إذا طمأن نفسه بشيء ما كقراءة المعوذتين..
وهذا الفهم لآيات المعوذتين قد استنبطته بالقياس على آيات سورة الذاريات، فبعد أن ذكر الله صفات المؤمنين قال: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ" هنا الشخص الكبير الإيمان، العالي الهمة، سيضرب في الارض طولًا وعرضًا، مؤمنًا بأن الرزق من عند الله، ولن يذل نفسه لأحد، ولن ينافق، أو يداهن، أما الشخص الضعيف الإيمان سيبدأ بالتذمر قائلًا: "نعم أعلم أن الرزق من عند الله ولكني أرى أن الواقع يفرض علينا أن نداهن وننافق و..و.و.و..و حتى نحصل على الرزق من عند الغير"، وحتى يُطمئن الله هؤلاء الضعفاء أقسم بعدها مباشرة قائلًا: " فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ" فالله ليس بحاجة للقسم، ولكنه يعلم أن هناك ضعاف الإيمان، الذين لن يستريحوا حتى يطمئنوا بالقسم، ومن عادة الناس في كل زمان أن يوهموا أنفسهم بتصديق الذي يحلف، حتى ولو كان يعلم منه الكذب قبل ذلك، ففي لغتنا الدارجة يقول العامي (احلف )ولذلك خاطبهم الله بما يفهمون .

ولو أن الحسد سيغير الواقع لكان هناك في كل جيش فرقة خاصة بالحساد، ولاستطعنا أن نهزم الدول من دون أسلحة أو دمار، فقط بالحسد، ولكانت موهبة يتسارع الناس إلى تعلمها..
قال الله تعالى في شأن السحرة أنفسهم: "وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" فكيف بكلمات تخرج من الفم لا تحمل سلاحًا ولا سيفًا.
فالحسد لا يغير الواقع، والحسد لا يتدخل في قضاء الله، وإنما هو مجرد مرض وضعف في الأمة، ولذلك حذرنا الرسول منه، ولعل أبلغ الحكم التي قيلت فيه: "الأنانية تولد الحسد، والحسد يولد البغضاء، والبغضاء تولد الاختلاف، والاختلاف يولد الفرقة ، والفرقة تولد الضعف، والضعف يولد الذل، و الذل يولد زوال الدولة وزوال النعمة وهلاك الأمة"
فهيا بنا نعمل ونظهر مواهبنا التي حبانا الله إياها وكفانا جهلًا يا سادة

إبداع\ أحمد الشنطوري




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق