الثلاثاء، 1 أغسطس 2017

قصة قصيرة - عيون الياسمين

   



  اعتدت اختلاس نظرة إليها في الغدوة والروحة، أحيانا كنت أظن أنها من تجتذبني للنظر إليها، لا أعرف ولكنني أدمنت عينيها، لا، ربما ليست لديها عيون أو لديها عيون خضراء.
تجتذبني فأنظر إليها من كل مكان، من أمامها ومن خلفها وعن يمينها وعن يسارها، أحيانا لا أنظر إلى عيونها فقط وإنما أنظر إلى محاسنها الأخرى أيضًا، التي تجعل منها محل نظر تتميز بها عن غيرها.
استرقت يومًا نظرة إليها بطرف عيني ووجدتها ترمقني كما أرمقها، سرقتني من نفسي وغرقت في تأملها وقد هممت أن أدنو منها وأحتضنها وأتنشقها غير مبالٍ، نسيت عالمي وكأني في جنة ما، لكني استعدت وعيي في اللحظة الأخيرة وتذكرت الناس حولي وهم يجوبون الطرقات.
يا لها من لحظات عشتها في عالم غير عالَمي، جميل هو عالمك يا شجرة الحسن والجمال، كم تمنيت لو أسكن بجوارها لكي تتأملها عيناي في أي وقت شاءت وتعتني بها وتسقيها وتستقي منها.
في يوم آخر ليس ببعيد عندما مررت بها وأنا اكاد أموت شوقًا لرؤياها حيث فرق بيننا القدر أمدًا حسبته دهرًا طويلًا، حين وقعت عيني في شباك عيونها الخضراء واصطادتني محاسنها وأغواني سحرها الباهر.
 اقتربت منها اليوم عازمًا غير عابئٍ ووقفت أمامها مباشرة أكاد أحتضنها وأخذت بشغف أتنشق أزهارها، وتذوب عيني في عيونها الخضراء، حين شعرت بوخز في ساقي، ولم أبالِ،تابعت رشف عبيرها حين شعرت بوخزات في يدي وصدري وساقي ولم أبالِ، لقد خرجت من إطار عاداتنا وفعلت مالم يكن تقليديا، وخاطرت ولم أبال .
ولكن ما حدث في هذه اللحظة حيث فاجأني شيء ما كان يزغزغني قرب أذني ووخزني وخزة توالت بعدها وخزات أخرى شديدة الألم في أماكن أخرى من جسدي، اضطربت وتراجعت قدماي ووقعت أرضًا.
ذهلت أكثر حين وجدت النمل الضخم يملأ جسدي وساقي و يتسلق إلى عنقي، فزعت من هول المفاجأة وأخذت أنزع النمل عني، من هنا وهناك، وهو يوخزني و أتأوه من الألم.
بعد دقائق عند انتهائي واستيقاظي من غفلتي وإفاقتي من السحر الذي استحوذ عليً، اقتربت منها وعيني تجوبها حاذرة وساقي تسير بعد ان تأخذ الأمان من عيني.
وجدت على ساقها من أسفلها حشود من النمل الضخم، يجري بحركة عشوائية في كل جهة، وارتفعت بعيني فوجدت بعض شباك العناكب تغطي بعض زوايا في أطراف أغصانها.
أتذكر أنني قمت بالبصق عليها وتراجعت فورًا وفي وجهي حممٌ تغلي وأخذت ألعنها وأسبها وعدت أدراجي.
ظللت لأيام أعبر طريقا آخر غير الذي تقف فيه تترصدني، أصبحت كابوسًا بالنسبة إليً لا يفارقني، و أفزع حين أتذكر ما حدث يومها.
إنها شيطانة بوجه جميل يأسرني ويقودني نحو هلاكي ومنيتي، يا لوقاحتها وقبحها، لقد أحببتها وعشقتها، كيف تفعل بي هذا !!
وددت لو أحرقها وأنتقم منها أو أن أنتزعها من جذورها وأقطعها قطعًا متناثرة.

أحاول أن أجد سببًا كان يجعلني متعلقًا بها طوال هذه المدة.
أفكر كم كنت أحبها و أذم غبائي هذا، أيحب أحد شيئًا كهذا، شيئًا مليئًا بالحشرات والنمل والعناكب ولو حفرت أسفلها لوجدت حشودًا من الدود القذر .
بعد ما يعادل أسبوعًا على ما حدث، اتخذت قراري على حرقها، و جلبت عدتي لذلك .
أخذت عدًتي وأنا ذاهب متأهب لعملية الإبادة والانتقام من تلك الشجرة.
مررت بشارعها وأنا آخذ بحذري ألا أقع في سحرها مرة أخرى.
اقتربت منها خافضًا بصري الى الأرض، وفتحت حقيبتي وأخرجت منها زجاجة الكحول الرش، وشرعت في نثر ما بها وأنا مغمض العينين على الشجرة من أعلاها وحتى أسفلها وأنا أتذكر ما حدث في الماضي.
كنت ممسكا بالزجاجة ضاغطا عليها بشده بعد أن اعتراني غضب بعد أن استحضرت ما كان قد حدث منها، قبل أن أسمع صوتا و كأنه طنين نحلة تطير بجوار أذني ثم أغارت على أنفي و لسعتني.
تراجعت خطوات الى الوراء ومن حنقي ومباغتتي وتوجعي قمت بضخ النحلة التي تقف على أنفى بالكحول فهربت، ثم مسحت عيني التي كانت تحرقني إثر ما لامسها من بقايا كحول طفيف بطرف قميصي الذي كنت أرتديه .
مزيد من الألم كان يتسرب من أنفي الى عيني التي قطَرت دمعة رغما عنها ومسحتها مرة أخرى بطرف يدي ثم ببطء لأتأكد من سلامة عيني فتحتها (مر الأمر السابق بسرعة وأنا غير مدرك لما أفعل بعد ان لسعتني النحلة).
إنها زهور الياسمين البيضاء، يصل بعض من عطرها اليً يشرح صدري، وأوراقها الخضراء المتلألئة تحت أشعة الشمس.
يا لرقة أوراقك لقد هدأت أعصابي و سكنت، سحرني جمالها وأنستني ما جئت لأجله وخففت من حدة ألمي.
صوت الطيور وهي تغرد، وهي تطير جماعة مع بعضها ثم تهبط على الشجرة وتتراقص، يضفي ذلك على المشهد بعدًا آخر من البهاء.
 جزعها الممتلئ الذي يصل الى حوالى ثلاثة أمتار مع بعدي عنها أيضا قرابة الثلاث أمتار، تجوب عيني عيونها الخضراء التي يجذبني النظر إليها من كل مكان وتأسرني زهورها البيضاء .
قلت في نفسي كيف جئت عازمًا على إبادتك، أنت ساحرة يا شجرة الحسن والجمال، يا لغبائي ما الذي جاء بي إلى هنا وكنت عازمًا على فعله.
نظرت إلى يدي فوجدتني أمسك بزجاجة الكحول ولمحت عيني نملة ضخمة عندما نظرت لأسفل تجاه يدي، تذكرت ما حدث وكيف شجعت هذه الشجرة النمل على محاربتي والقذارة التي تملأها وشباك العناكب.
حدثني جانب من نفسي: ولكنها لم تفعل شيئًا لي الآن ولم يقترب مني أيٌ من النمل وتتركني أحدق بها كما يحلو لي وأتنعم بجمالها وأتنسم شذاها.
 رددت: ولكنها شيطانة تخدعني بجمالها لتجذبني إليها وتذيقني أشد العذاب، لعلها تستمتع بذلك.
حدثني الجانب الاخر بسرعة: لا إنها ليست كذلك، إنها أجمل مني بكثير وأنقى وأكرم.
إنها لا تسمح لي بالنظر إليها والاستمتاع بجمالها وتنفس عطرها فقط، إنها أيضا تعطي جزعها البني هذا للنمل يتخذه بيتا له وللطيور في أغصانها عششًا وللنحل في أزهارها رحيقًا، إنها تنفع العالم بكل ما استطاعت أن تفعله بكل جزء منها، إن ما حدث في اليوم السابق هو أن خاف النمل على طعامه ونفسه وعشيرته فهاجمني، وربما لم يهاجمني ولكن أراد أن يعرف إن كنت جلبت له طعامًا في ملابسي أم لا.
إن شجرة الياسمين هذه جميلة هكذا من بعيد، هذا البعد مناسب جدًا ليبقيَ على علاقتي بها، لا أؤذيها ولا تؤذيني.
عندما أدركت ذلك أحببتها أكثر من السابق، وعدت إلى داري فرحًا مسرورًا بطيبة قلبها هذه، وأبلغها سلامي وتحياتي كل يوم امر عليها وأصبحت أجد فيها جمالًا ما كان مختلفًا عن الماضي .
 لكنها تبدو ضعيفة بعض الشيء فلا تستطيع أن تمنع عنها هذا النمل من النخر في جزعها ولا الطير من النقر في أوراقها، لربما تساعدهم ولا أعلم، ولكن يمكن لهذا النمل ان يكثر من النخر في أسفل جزعها فيجزها من أسفلها وترقد ميتة لا حياة فيها.
لربما أحببتها أكثر من ذلك النمل والطير ولكنها لم تترك لي نفسها كما تركتها لهم ولم تدفع عني هجوم النمل.
لربما هذا عيب فيها ولكن هذا لا يمنعني من الاستمتاع بكافة محاسنها.
ليس ذنبها أني حاولت احتضانها ولكنها مشكلتي أنا.
إنها خلقت هكذا جميلة في أشياء كثيرة وسيئة في أشياء قليلة جدًا، عسى أن تكون في نظري أنا فقط سيئة وأكون أنا من اصطنعت مشكلة ضخمة إلى هذا الحد ... إلى أن كدت أبيدها.
إنها بالنسبة لي ولعالم البشر هذا ملاك جميل.
لعلني أنا من كنت مذنبًا عندما؛ حاولت الدنو منها أكثر مما ينبغي، وفضولي لمعرفة كل شيء عنها و طمعي في أن أستحوذ عليها وحدي، يمكن أن يكون هذا عيب فيَ أيضا
حسنًا يا شجرتي يا شجرة الحسن والجمال يا شجرة الياسمين سأظل أحبك وأتأمل عيونك الخضراء وأتنسم عطرك الزاكي، من مسافة ليست ببعيدة ولا قريبة، مسافة وسطية بحيث أتطلع إليك فلا أرى غير محاسنك.
تعلمت من هذه التجربة شيئا مهما للغاية، ربما ليست شجرتي وحدها هي من يجب الابتعاد عنها مسافة ما كي أحافظ على علاقتي بها ........ أيضًا البشر كذلك.



إعداد \ عبدالرحمن علي
تصوير\ سمر أسامة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق